فصل: تفسير الآية رقم (62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (61):

{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)}
ومعنى {على أَعْيُنِ الناس...} [الأنبياء: 61] يعني: على مَرْأىً منهم ليشاهدوه بأعينهم {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61] أي: يشهدون ما نُوقِعه به من العذاب حتى لا يجترئ أحد آخر أنْ يفعل هذه الفِعْلة، ويكون عبرةً لغيره. {قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ...}.

.تفسير الآية رقم (62):

{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)}
هنا أيضاً كلام محذوف: فأتَوْا به، ثم سألوه هذا السؤال، والاستفهام {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا} [الأنبياء: 62] استفهام عن الفاعل؛ لأن الفعلَ وضاح لا يحتاج إلى استفهام؛ لذلك لم يقُلْ: أفعلتَ هذا يا إبراهيم، بل اهتم بالفاعل: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا..} [الأنبياء: 62] كما تقول: أبنيتَ الدار التي كنت تنوي بناءها؟ فهذا استفهام عن الفِعْل، إنما أأنت بنيت الدار، فالمراد الفاعل. {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (63):

{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)}
وكأنه يريد أنْ ينتزعَ منهم الإقرار بأن هذا الكبير لا يفعل شيئاً، فيُواجههم: فلماذا- إذن- تعبدونهم؟
وقَوْل إبراهيم {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا...} [الأنبياء: 63] فيه توبيخ وتبكيت لهم، حيث رَدَّ الأمر إلى مَنْ لا يستطيعه ولا يتأتّى منه، وقد ضرب الزمخشري- رحمه الله- مثلاً لذلك برجل جميل الخطِّ، وآخر لا يُحسِن الكتابة، فيرى الأخيرُ لوحة جميلة، فيقول للأول: أأنت كاتب هذه اللوحة؟ فيقول: لا بل أنت الذي كتبتَها!! تبكيتاً له وتوبيخاً.
ثم يُصرِّح إبراهيم لهم بما يريد: {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] وهم لن يسألوهم؛ لأنهم يعرفون حقيقتهم. {فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ...}.

.تفسير الآية رقم (64):

{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)}
أي: تنبّهوا وعادوا إلى عقولهم، ونطقوا بالحق: {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} [الأنبياء: 64] يعني: بعبادتكم هذه الأصنام، وأنتم تعلمون أنها لا تنفع ولا تضرُّ، ولا ترى ولا تتكلم.
هكذا واجهوا أنفسهم بهذه الحقيقة وكشفوا عن بطلان هذه العبادة، لكن هذه الصحوة ستكون على حسابهم، وخسارتهم بها ستكون كبيرة، هذه الصحوة ستُفقِدهم السُّلْطة الزمنية التي يعيشون في ظلها، وينتفعون من ورائها بما يُهدَي للأصنام؛ لذلك سرعان ما يتراجعون ويعودون على أعقابهم بعد أن غلبهم الواقع وتذكَّروا ما تجرُّه هذه الصحوة. {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ...}.

.تفسير الآية رقم (65):

{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)}
فبعد أنْ جابهوا أنفسهم بالحق {نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ...} [الأنبياء: 65] والنكسة: أن الأعلى يأتي في الأسفل، وأنتم تعلمونها طبعاً!! ورجعوا يقولون له نفس حجته عليهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 65] وهذا هو التغفيل بعينه.
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ...}.

.تفسير الآية رقم (66):

{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)}
يعني: لا ينفعكم بشيء إنْ عبدتموه ولا يضرّكم بشيء إنْ تركتم عبادته. {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ...}.

.تفسير الآية رقم (67):

{أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)}
أفٍّ: اسم فعل بمعنى أتضجر، فليس اسماً، ولا فعلاً، ولا حرفاً، إنما(أف) اسمٌ مدلوله فعل، ففيه من الاسمية، وفيه من الفعلية؛ لذلك يسمونها (الخالفة) لأن كلام العرب يدور على اسم أو فعل أو حرف، مثل هيهات: اسم فعل بمعنى بَعُدَ. فإبراهيم- عليه السلام- يعبِّر بهذه الكلمة(أُفٍّ) عن ضيقه وتضجُّره ممَّا يفعل قومه من عبادة الأصنام من دون الله. {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا...}.

.تفسير الآية رقم (68):

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)}
ونلحظ قولهم {حَرِّقُوهُ..} [الأنبياء: 68] بالتضعيف الدالّ على المبالغة، ولم يقولوا مثلاً: احْرٍقوه، وقد اجتمعوا على هذا الفعل فبنَوْا بناءً وضعوا فيه النار، ومكثوا أربعين يوماً يسجرونها بكل ما يمكن أن يشتعل، وبذلك اشتدت حرارة النار، حتى إن الطير الذي يمرُّ فوق هذه النار كان يسقط مشوياً من شدة حرها.
والدليل على ذلك أنهم لما أرادوا إلقاء إبراهيم في النار لم يستطيعوا الاقتراب منها لشدة لَفْحها، فصنعوا له منِجنيقاً لِيُلْقُوه به في النار من بعيد.
وقولهم: {وانصروا آلِهَتَكُمْ...} [الأنبياء: 68] حسب اعتقادهم كأن المعركةَ بين إبراهيم والآلهة، والحقيقة أن الآلهة التي يعبدونها مع إبراهيم وليست ضده، فالمعركة- إذن- بين إبراهيم وبين عُبَّاد الأصنام.
وقولهم: {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68] يعني: إنْ فعلتم شيئاً بإبراهيم فَحرِّقوه.
ثم يقول الحق سبحانه عن إنجائه لإبراهيم- عليه السلام- من هذه المَحْرقَة: {قُلْنَا يانار كُونِي...}.

.تفسير الآية رقم (69):

{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)}
جاء هذا الأمر من الحق الأعلى سبحانه؛ ليخرق بالمعجزة نواميس الكون السائدة، ولا يخرق الناموسَ إلا خالقُ الناموس، كما قلنا في قصة موسى عليه السلام: الماء قانونه السيولة والاستطراق، ولا يسلبه هذه الخاصية إلا خالقه؛ لذلك فَرَقه لموسى فُرْقاناً- كما قلنا- كلُّ فِرْق كالطَّوْد العظيم، فلا يُعطّل قانون الأشياء إلا خالقها؛ لأن الأشياء لم تُخلق لتكون لها القدرة على قيُّومية نفسها، بل مخلوقة تُؤدِّي مهمة، والذي خلقها للمهمة هو القادر أنْ يسلبَها خواصّها.
وفَرْق بين فِعْل العبد وفِعْل الحق سبحانه: فلو أنَّ في يدك مسدساً، وأنت تُحسِن التصويب، وأمامك الهدف، ثم أطلقتَ تجاه الهدف رصاصة، أَلَكَ تحكُّمٌ فيها بعد ذلك؟ أيمكن أنْ تأمرها أن تميلَ يميناً أو شمالاً؟
لكن الحق سبحانه يتحكّم فيها، ويُسيِّرها كيف يشاء، فالحق سبحانه خلق النار وخلق فيها خاصية الإحراق، وهو وحده القادر على سَلْب هذه الخاصية منها، فتكون ناراً بلا إحراق، فليس للنار قيومية بذاتها.
لذلك يقول البعض: بمجرد أنْ صدر الأمر: {يانار كُونِي بَرْداً وسلاما...} [الأنبياء: 69] انطفأت كل نار في الدنيا، فلما قال: {على إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] أصبح الأمر خاصاً بنار إبراهيم دون غيرها، فاشتعلت نيران عدا هذه النار. ونلحظ أن الحق سبحانه قيَّد بَرْداً بسلام؛ لأن البرد المطلق يؤذي.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً...}.

.تفسير الآية رقم (70):

{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)}
والمراد بالكيد هنا مسألة الإحراق، ومعنى الكيد: تدبير خفيّ للعدو حتى لا يشعر بما يُدبَّر له، فيحتاط للأمر، والكيد يكون لصالح الشيء، ويكون ضده، ففي قوله تعالى: {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ...} [يوسف: 76].
أي: لصالحه فلم يقُلْ: كِدْنا يوسف إنما كِدْنا له، وقالوا في الكيد: إنه دليل ضعف وعدم قدرة على المواجهة، فالذي يُدبِّر لغيره، ويتآمر عليه خُفْية ما فعل ذلك إلاّ لعدم قدرته على مواجهته.
لذلك يقولون: أعوذ بالله من قبضة الضعيف، فإنِّي قويٌّ على قبضة القوى. فإذا ما تمكّن الضعيف من الفرصة لا يدعها؛ لأنه لا يضمنها في كل وقت، أما القوى فواثق من قوته يستطيع أن ينال خَصْمه في أيِّ وقت، ومن هنا قال الشاعر:
وَضَعِيفَةً فَإِذَا أَصَابَتْ فُرْصَة ** قتلتْ كَذلِكَ قْدْرَةُ الضِّعفَاءِ

لذلك استدلوا على ضعف النساء بقوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] وما دام أن كيدهن عظيم، فضعفُهن أيضاً عظيم أو حتى أعظم.
ثم قول تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين} [الأنبياء: 70] والأخسرون جمع أخسر، على وزن أفعل؛ ليلد على المبالغة في الخُسْران، وقد كانت خسارتهم في مسألة حَرْق إبراهيم من عِدَّة وجوه: أولاً أن إبراهيم عليه السلام لم يُصِبْه سوء رغم إلقائه في النار، ثم إنهم لم يَسْلَموا من عداوته، وبعد ذلك سيجازون على فِعْلهم، هذا في الآخرة، فأيُّ خُسْران بعد هذا؟
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى...}.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)}
{وَنَجَّيْنَاهُ...} [الأنبياء: 71] يعني: كان هناك شرٌّ يصيبه، وأذىً يلحق به، فنجّاه الله منه، وهذه النجاة مستمرة، فبعد أنْ أنجاه الله من النار أنجاه أيضاً مِمَّا تعرَّض له من أَذَاهم.
{وَلُوطاً...} [الأنبياء: 71] وكان لوط عليه السلام ابنَ أخ إبراهيم {إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] أي: قلنا لإبراهيم: اترك هذه الأرض- وهي أرض بابل من العراق- واذهب إلى الأرض المقدسة بالشام، وخُذْ معك ابن أخيك، فبعد أنْ نجاهما الله لم يتركهما في هذا المكان، بل اختار لهما هذا المكان المقدس.
والأرض حينما تُوصَف يُراد بها أيضاً مُحدَّدة مخصوصة، فإذا لم تُوصَف فتطلق على الأرض عامة إلا أن يعينها سياق الحال، فمثلاً لما قال أخو يوسف: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي...} [يوسف: 80] فالسياق يُوضِّح لنا أنها أرض مصر.
لكن قوله: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض...} [الإسراء: 104] فلم تُعيَّن، فدلَّ ذلك على أنها الأرض عامة، اسكنوا كُلَّ الأرض، يعني: تبعثروا فيها، ليس لكم فيها وطن مستقل، كما قال في آية أخرى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً...} [الأعراف: 168].
فإذا أراد الله تجمعوا من الشتات {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة...} [الإسراء: 104] أي: المرة التي سينتصرون فيها {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104] وهكذا يتجمَّعون في مكان واحد، فيسْهُلُ القضاء عليهم.
ومعنى {بَارَكْنَا فِيهَا...} [الأنبياء: 71] البركة قد تكون مادية أو معنوية، وهي الزروع والثمار والأنهار والخيرات، أو بركة معنوية، وهي بركة القِيَم في الأرض المقدسة، وهي أرض الأنبياء، ومعالم النبوة والرسالات.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ...}.

.تفسير الآية رقم (72):

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)}
يعطينا الحق سبحانه هنا لقطةً من قصة إبراهيم لكن بعيدة عَمّا نحن بصدده من الحديث عنه، فقد وهب الله لإبراهيم إسحق لما دعا الله قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين} [الصافات: 100] مع أنه كان عنده إسماعيل، لكن إسماعيل من هاجر، وقد تحركت مشاعر الغَيْرة لدى سارة، ووجدت في نفسها ما تجده النساء في مسألة الولد، وكيف يكون لإبراهيم ولد من هاجر التي زوَّجتها له دون أن يكون لها مِثْله.
لذلك ألحَّتْ سارة على إبراهيم أن يدعو الله أنْ يرزقها الولد، فدعا إبراهيم ربه، وأراد الحق سبحانه أن يجيب إبراهيم، وأن يُحقِّق له له ما ترجوه زوجته، لكن أراد أن يعطيه هذا الولد في ملحظ عقدي يُسجَّل ولا يزول عن الأذهان أبداً، ويظلُّ الولد مقترناً بالحادثة.
فبداية قصة إسحق لما أمر الله نبيه إبراهيم في الرؤيا أن يذبح ولده إسماعيل، فأخبره برؤياه: {يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى...} [الصافات: 102].
أراد إبراهيم أنْ يُشرك ولده معه في هذا الاختبار، وألاَّ يأخذه على غِرَّة حتى لا تتغير نفسه نحو أبيه فيكرهه وهو لا يعلم ما حدث، وأراد أيضاً ألاَّ يحرم ولده من الثواب والأجر على هذه الطاعة وهذا الصبر على البلاء.
أما إسماعيل فمن ناحيته لم يعارض، ولم يقُلْ مثلاً: يا أبت هذه مجرد رؤيا وليست وحياً، وكيف نبني عليها، بل نراه يقول: {ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ} [الصافات: 102] ولم يقُلْ: أفعل ما تقول، فما دام الأمر من الله فافعل ما أمرتَ به {ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102].
{فَلَمَّا أَسْلَمَا...} [الصافات: 103] أي: هما معاً إبراهيم وإسماعيل {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ...} [الصافات: 103] يقال: تله يعني جعل رأسه على التل، وهو المكان المرتفع من الأرض، و{لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] يعني: جعل جبهته مباشرة للأرض، بحيث يذبحه من قفاه، وهذا هو الذَّبْح العاجل المثمر.
{وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ...} [الصافات: 104-105] وما دُمْتَ صدّقْتَ الرؤيا، فلكَ جزاء الإحسان؛ لأنك أسرعتَ بالتنفيذ مع أنها رؤيا، كان يمكنه أن يتراخى في تنفيذها، لكنه بمجرد أن جاء الأمر قام وولده بتنفيذه.
إذن: الحق سبحانه لا يريد من عبده إلا أنْ يُسلِّم بقضائه، وصدق القائل:
سَلِّم لربِّكَ حُكْمَهُ فلحكمةٍ يَقْضِي ** ه حتى تستريح وتنْعماً

واذْكُرْ خليلَ اللهِ في ذَبْحِ ابنهِ ** إذ قال خالقه فلما أسلمَا

لذلك لا يرفع الله قضاءٌ يقضيه على خلقه إلا إذا رُضيَ به، فلا أحدَ يجبر الله على شيء، وضربنا لذلك مثلاً- ولله المثَل الأعلى- بالأب حين يدخل، فيجد ولده على أمر يكرهه، فيزجره أو يضربه ضربة خفيفة، تُعبِّر عن غضبه، فإنْ خضع الولد لأبيه واستكان عاد الوالد عطوفاً حانياً عليه وربما احتضنه وصالحه، أمّا لو عارض الولد وتبجَّح في وجه والده فإنه يشتد عليه ويُضاعِف له العقوبة، وتزداد قسوته عليه.
وهكذا الحال مع إبراهيم {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ففدينا له إسماعيل، ليس هذا وفقط بل {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ...} [الصافات: 112] ثم زاده بأنْ جعل إسحق أيضاً نبياً مثل إسماعيل، هذه هي مناسبة الكلام عن إسحق ويعقوب.
هنا يقول تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً..} [الأنبياء: 72] والنافلة: الزيادة، وقط طلب من ربه ولداً من الصالحين، فبشَّره الله بإسحق ومن بعده يعقوب وجميعهم أنبياء؛ لذلك قال {نَافِلَةً...} [الأنبياء: 72] يعني: أمر زائد عما طلبتَ؛ فإجابة الدعاء بإسحق، والزيادة بيعقوب، وسرور الإنسان بولده كبير، وبولد ولده أكبر، كما يقولون: (أعز من الوِلْد وِلْد الولد) والإنسان يضمن بقاء ذِكْره في ولده، فإن جاء ولد الولد ضَمِن ذِكْره لجيل آخر.
والهبة جاءت من الله؛ لأن المرأة لم تكُنْ صالحة للإنجاب، بدليل قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 29] فردَّ عليها: {قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله...} [هود: 73] أي: أنه سبحانه قادر على كل شيء.
ويقولالحق سبحانه: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء: 72] فالحفيد نافلة وزيادة في عطاء الذرية، ومبالغة في الإكرام، ثم يمتن الله على الجميع بأن يجعلهم صالحين، ويجعلهم أنبياء، كما قال في آية أخرى: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} [مريم: 49]. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا...}.